-->

الأربعاء، 6 نوفمبر 2013

العرب و أدب الفكاهة



لم يعرف أدب الفكاهة والضحك العالمي على مر العصور كاتباً في قامة أديبنا العربي أبو عثمان عمرو بن بحر ‏الجاحظ، الذي ملأ الدنيا وشغلها بفكاهته اللاذعة، وهو القائل: «من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر».


 فلم ‏يترك الجاحظ شيئاً في زمانه إلا وسخر منه سخرية لاذعة، إلى حد أنه وجه سهام نقده الساخر إلى نفسه، فضحك ‏من دمامته وجحوظ عينيه..

 فقد روى أنه شاهد امرأة من جميلات عصره تسير في شوارع بغداد سافرة الوجه، ‏فتبعها عبر الشوارع وهي راضية مبتسمة، حتى إذا جاءت إلى السوق دخلت إلى محل صائغ وأشارت له أن ‏يتبعها، فلما دخل قالت للصائغ: «لقد طلبت منك أن تنقش لي صورة الشيطان، وجئتك بهذا الرجل كي تقتبس ‏منه»!‏

ولم يكن الجاحظ إلا واحداً من أعلام أدب الفكاهة العربي، الذي ازدهر بقوة منذ القرن الثاني الهجري، وتفوق فيه ‏العرب –بجدارة- على كافة شعوب العالم، فهم قوم إذا ضحكوا.. ضحكت الدنيا.‏

وثمة طائفة من مشاهير العلماء، في فجر الإسلام وضحاه ألفوا في هذا الباب، منهم الخطيب البغدادي في كتابة ‏‏(التطفيلوالحصري القيرواني صاحب (زهر الآداب)، في كتابه (جمع الجواهر في الملح والنوادروالثعالبي ‏صاحب (يتيمة الدهر) في كتابه (نتف الظرفوالأبشهي (المستطرفوابن الجوزب في كتابه (أخبار ‏الظراف والمتماجنين

 وهذه الكتب الفكاهية لا تخلو من فوائد علمية وأدبية؛ بل هي سجل صادق لتاريخنا ‏السياسي والاجتماعي في زمانها.‏

ويربط علماء اللغة والأخبار بين الفكاهة والظرف ويوسعون في معانيها حتى يشمل جمال المظهر والمخبر، ‏وروعة ولطف الخصال.‏
ومن هذا قول ابن الجوزي: «رد الظرف يكون في صاحبة الوجه ورشاقة القد، ونظافة الجسم والثوب، وبلاغة ‏اللسان وعذوبة المنطق، وفي خفة الحركة وقوة الذهن وملاحة الفكاهة والمزاح، وكأن الظرف مأخوذ من الظرف ‏الوعاء، فكأنه وعاء لكل لطيف». وقال الكسائي: «الظريف: الحسن الوجه واللسان».‏

ولكن العرب ينفرون من الإسراف في المزاح، ويرون أن يكون بقدر ما يجدد الهمة ويزكي النشاط لذلك قالوا: ‏‏«الإفراط في المزاح مجون، والاقتصاد فيه ظرف، والتقصير فيه ندم».‏

ويعود مؤرخو الفكاهة والظرف بهما إلى أقدم العصور، وذلك طبيعي؛ فالضحك من خصائص الإنسان دون سائر ‏الحيوان، وقد عرف أهل المنطق القدامى الإنسان بأنه (حيوان ضاحك) مثلما عرفوه بأنه (حيوان ناطق) لذلك لا ‏نستغرب إذا نسبت روايات الفكاهة والظرف إلى شعراء اللاتين واليونان وأن يروي عن (تراس ومينادر) الكثير ‏من الروايات المضحكات ولا نعجب أن ينسب إلى الأنبياء روايات كثيرة فيها ظرف وفكاهة مثل قصة سليمان ‏‏(عليه السلام) والهدهد وحيل سليمان للوصول إلى الحقيقة كحادثة الأوز وسارقتها.‏

إقرأ أيضاً : لغتنا العربية .. كيف أصبحت غريبة في أوطانها ؟
وحفل الشعر العربي منذ القدم بالتهكم والهزل، وما الهجاء سوى أحد فنون هذا الشعر، إذ يقوم على التندر ‏بالمهجو والتهكم به، ومن هجاء أحد الشعراء لبني تميم وتعييرهم بأكلهم للضب الذي يدل على الفقر والمسبغة بما ‏يتنافى مع ما يدعونه من مفخرة وكرم قول بعضهم:‏
إذا ما تميمي أتاك مفاخراً ‏
فقل: عد عن ذا، كيف أكلك للضب؟
وهذا الشاعر الضبي يقذع في السخرية من بني العنبر الذين لا يغيثون قومه حين يستغيثون بهم، ويقول إن من ‏يرجوهم مع أنهم لا يسارعون إلى نجدة كمن يرجو الغوث من الأجنة في بطون أمهاتها فقال فيهم: ‏
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم ‏
كما في بطون الحاملات رجاء ‏

وحين أصبح الخلفاء والأمراء العرب القدامى يعيشون في ترف؛ طلبوا من يضحكهم ويسري عنهم، لذلك كثر ‏الأدباء من شعراء وغيرهم على أبوابهم لإضحاكهم بالفكاهات والنوادر، ومنهم أشعب وأبو دلامة وأبو الحسين ‏الخليع وأبو العبر، حتى كان منهم من يقلد أصوات البهائم والطيور ولهجات الأقطار المختلفة تقليداً دقيقاً بأسلوب ‏مضحك..
 روى الجاحظ عنهم في (البيان والتبيين) أن من أشهرهم أبا ربوبة الزنجي الذي كان يقف بباب الكرخ ‏فينهق فلا يبقي حمار إلا وينهق معه!‏

وحكى الثعالبي في (يتيمة الدهر) أن أبا محمد بن زريق الكوفي، كان كاتباً شاعراً، وكان من عجائب الدنيا في ‏الفكاهة والمحاكاة، وكان يتردد على مجلس الوزير المهلبي ويحكي له النوادر ويقلد الآخرين فيعجب الناظر ‏والسامع له. ‏

وفي القرن الرابع الهجري صار للشعر الهزلي مجتمع وشعراء متخصصون، على رأسهم ابن الحجاج البغدادي ‏الذي كان يعتبر صاحب مذهلة وأصالة في مدرسة الهزل، وعاصره ابن سكرة الذي اشتهر بهجائه الهزلي بجارية ‏تدعى (ضمرة) قال الثعالبي: «إنه نظم في هجائها عشرة آلاف بيت». وقيل فيه وفي ابن الحجاج : «إن زماناً جاد ‏بهما لسخي». وفي مصر عرف محمد الوهراني في القرن السادس الهجري بإمامته في الفكاهة, وبخاصة رسائله ‏الهزلية ومقاماته التي تفضي بلاغة وظرفاً.‏

أبو نواس في السوق:

استفاضت كتب الأدب الفكاهي بأخبار عرب البادية, من ذلك أن الأعرابي في سبيل الظرف والفكاهة كان لا ‏يحفل بالمال والكسب المادي، فقد روى ابن الجوزي أن أبا نواس خرج إلى السوق لشراء أضحية فاجتمع ‏بأعرابي ظريف، فقال أبو نواس «لأجربنه لأرى صنيعه»، فسأله شعراً:‏
أيا صاحب الشاة التي قد تسوقها ‏
بكم ذاكم الكبش الذي قد تقدما
‏ فرد عليه الأعرابي:‏
أبيعكه إن كنت ممن يريده ‏
ولم تك مزاحاً بعشرين درهما
‏ فقال أبو نواس: ‏
أجدت رعاك الله رد جوابنا ‏
فأحسن إلينا إن أردت التكرما
‏ فقال الأعرابي:‏
أحط من العشرين خمساً فإنني ‏
أراك ظريفاً فأقبضن مسلّما
فدفع إليه أبو نواس خمسة عشر درهماً وأخذ كبشاً يساوي ثلاثين درهماً.‏


ولعل رواة الأدب العربي القدامى قد عنوا بالظرف والفكاهة دفاعاً عن مكانة العربي وإن كان بدوياً، ودلالة على ‏أنه يرتفع إلى مصاف أرقى الناس فكراً وأترفهم عيشاً، وإن كان من سكان البادية أهل الخشونة في العيش والحياة ‏الفقيرة المتواضعة.‏


وأعلام الفكاهة في الأدب العربي القديم كثيرون، ولعل بشار بن برد وأبا العيناء (من شعراء العصر العباسي ‏الأول) يأتيان في المقدمة، وأما بشار بن برد فله نوادر ساخرة من أعلام عصره صارت مضرب الأمثال على ‏كل لسان وتعجب منها الأدباء، لكنها جرت على صاحبها الويلات والعناء، فبسبب هجائه الساخر جافاه الصوفي ‏واصل بن عطاء وأهدر دمه.‏

ولكن لروح بشار الساخرة فضل عليه أيضاً؛ فقد قربته من الخليفة المهدي، وتغاضى عن إساءته لأقرب الناس ‏إليه، فهذا المعلى بن طريف مولى المهدي سأل مرة الحاضرين من علماء وشعراء عن المقصود بالنحل والشراب ‏في الآية (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات ‏فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)، ‏فقال بشار: النحل والشراب هما اللذان يعرفهما الناس، فقال له المعلى: «هيهات يا أبا..! النحل بنو هاشم والشراب ‏هو علمهم»، فقال له بشار: «أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم» فغضب ‏المعلى وشتم بشاراً، وظن أنه نال منه مقتلاً عند الخليفة، فلما بلغ أمرهما المهدي دعاهما وحدثه بشار بالحديث، ‏فضحك المهدي كثيراً حتى أمسك بطنه.‏

فكاهات الجاحظ



وإذا كان علم الجاحظ في قمة العلم العربي لعصره الذهبي الأول، فإن فن الجاحظ الفكاهي يعتبر قمة الفن العربي ‏الفكاهي لكل عصر.. ولا عجب في ذلك؛ فالعلم والفن أخوان متلازمان، ويرى فيهما خير ما في أساس التركيب؛ ‏لأن الضحك هو أول خير يظهر من المولود، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. ‏يقول الجاحظ: «ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك، صار المزح جداً والضحك ‏وقاراً..».

 لذلك شاعت الفكاهة، وعوامل السرور في الجاحظ الذي يرى ذلك أمراً ضرورياً لتنشيط الذهن وإدخال ‏السرور على القلب، وتزويد الحي بطاقة خلاقة في مجالي العلم والعمل، ولهذا يقوم كتابه (البخلاء) الذي جمع ‏أروع نوادر الأشحاء وحكايتهم التي يحتجون بها للبخل والاقتصاد، ويورد من الطرائف الكثير، فيقول: «ولك في ‏هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، وتعرف حيلة لطيفة، واستفادة نادرة عجيبة». ويقول: «وأنت في ‏ضحك منه إذا شئت، وفي لهو إذا مللت الجد..».

 ومن أروع ما كتب الجاحظ في هذا المقام (رسالة التربيع ‏والتدوير) التي سخر فيها من الوزير أحمد عبدالوهاب، ونعته ووصفه بالعرض والضخامة أو التربيع والتدوير.‏


أقام الجاحظ سخريته على أساليب فنية محكمة.. يخرج في السخرية من موضوع إلى موضوع، ويقلبه على جميع ‏الجوانب، ويمزقه دون أن يحس القارئ بغير الإعجاب بالأديب، والاندماج في روعة بيانه وجمال تصويره، وقد ‏اعتمد الجاحظ على المتناقضات في السخرية من منظر الوزير ومخبره مثل قوله: «ومن غريب ما أعطيت وبديع ‏ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع البطن غيرك، ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك.. فأنت المديد وأنت البسيط ‏وأنت الطويل وأنت القصير.. فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شحماً جمع الاستدارة والطول».‏

ويرفع الجاحظ الوزير إلى أعلى عليين تهكماً، ثم ينزل به إلى الدرك الأسفل مبالغة في التقريع والسخرية.. فيقول ‏له: «وأنا أبقاك الله أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم الفقه في الدين»، ‏ويطنب في ذلك أيما إطناب، ثم ينتقل الجاحظ إلى العلم والحكمة فيسأل الوزير ابن عبدالوهاب: «فخبرني ما ‏جرى بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار بينك وبين أرسطو طاليس.. وأي ‏نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت؟ فقط أبت نفسي غيرك.. ولولا أني كلفت برواية الأقاويل ومغرم بمعرفة ‏الاختلاف، ما سمعت من أحد سواك وما انقطعت إلى أحد غيرك».. إنه يراه جامع العلوم والحكم!‏

وهكذا تهكم الجاحظ من الحياة والأحياء وصاغ تهكمه على أساس من العلم الراسخ والفلسفة العميقة والفن الباهر، ‏بل إنه تهكم من الحياة كلها بصغارها وكبارها، وعلمائها وأدعيتها، بل سخر مما يسمى بـ(العظمة) وجعلها هباءً ‏منثوراً، ومع ذلك فهو بسخريته يبصرنا بالحياة، ويدفعنا إلى التواضع والعمل، ولنرتفع عن الصغائر كلها..

 وهكذا ‏سبق الجاحظ بأدبه الساخر فولتير وموليير وغيرهما من كتاب أوروبا الساخرين في القرنين السابع والثامن ‏عشر، وما تلاهما بعد الجاحظ بألف سنة وأكثر.‏

الكاتب/ جاد أرهمي
المغرب

أترك تعليقا

ليست هناك تعليقات

إعلان فوق التدوينة


إعلانات

إعلان أسف التدوينة


إعلانات

كافة الحقوق محفوظة لــ عالم المعرفة 2017 - 2018 | تصميم : آر كودر