لم يعرف أدب الفكاهة والضحك العالمي على مر العصور كاتباً في قامة أديبنا العربي أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، الذي ملأ الدنيا وشغلها بفكاهته اللاذعة، وهو القائل: «من كانت فيه دعابة فقد برئ من الكبر».
فلم يترك الجاحظ شيئاً في زمانه إلا وسخر منه سخرية لاذعة، إلى حد أنه وجه سهام نقده الساخر إلى نفسه، فضحك من دمامته وجحوظ عينيه..
فقد روى أنه شاهد امرأة من جميلات عصره تسير في شوارع بغداد سافرة الوجه، فتبعها عبر الشوارع وهي راضية مبتسمة، حتى إذا جاءت إلى السوق دخلت إلى محل صائغ وأشارت له أن يتبعها، فلما دخل قالت للصائغ: «لقد طلبت منك أن تنقش لي صورة الشيطان، وجئتك بهذا الرجل كي تقتبس منه»!
ولم يكن الجاحظ إلا واحداً من أعلام أدب الفكاهة العربي، الذي ازدهر بقوة منذ القرن الثاني الهجري، وتفوق فيه العرب –بجدارة- على كافة شعوب العالم، فهم قوم إذا ضحكوا.. ضحكت الدنيا.
وثمة طائفة من مشاهير العلماء، في فجر الإسلام وضحاه ألفوا في هذا الباب، منهم الخطيب البغدادي في كتابة (التطفيل)، والحصري القيرواني صاحب (زهر الآداب)، في كتابه (جمع الجواهر في الملح والنوادر)، والثعالبي صاحب (يتيمة الدهر) في كتابه (نتف الظرف)، والأبشهي (المستطرف)، وابن الجوزب في كتابه (أخبار الظراف والمتماجنين)،
وهذه الكتب الفكاهية لا تخلو من فوائد علمية وأدبية؛ بل هي سجل صادق لتاريخنا السياسي والاجتماعي في زمانها.
ويربط علماء اللغة والأخبار بين الفكاهة والظرف ويوسعون في معانيها حتى يشمل جمال المظهر والمخبر، وروعة ولطف الخصال.
ومن هذا قول ابن الجوزي: «رد الظرف يكون في صاحبة الوجه ورشاقة القد، ونظافة الجسم والثوب، وبلاغة اللسان وعذوبة المنطق، وفي خفة الحركة وقوة الذهن وملاحة الفكاهة والمزاح، وكأن الظرف مأخوذ من الظرف الوعاء، فكأنه وعاء لكل لطيف». وقال الكسائي: «الظريف: الحسن الوجه واللسان».
ولكن العرب ينفرون من الإسراف في المزاح، ويرون أن يكون بقدر ما يجدد الهمة ويزكي النشاط لذلك قالوا: «الإفراط في المزاح مجون، والاقتصاد فيه ظرف، والتقصير فيه ندم».
ويعود مؤرخو الفكاهة والظرف بهما إلى أقدم العصور، وذلك طبيعي؛ فالضحك من خصائص الإنسان دون سائر الحيوان، وقد عرف أهل المنطق القدامى الإنسان بأنه (حيوان ضاحك) مثلما عرفوه بأنه (حيوان ناطق) لذلك لا نستغرب إذا نسبت روايات الفكاهة والظرف إلى شعراء اللاتين واليونان وأن يروي عن (تراس ومينادر) الكثير من الروايات المضحكات ولا نعجب أن ينسب إلى الأنبياء روايات كثيرة فيها ظرف وفكاهة مثل قصة سليمان (عليه السلام) والهدهد وحيل سليمان للوصول إلى الحقيقة كحادثة الأوز وسارقتها.
إقرأ أيضاً : لغتنا العربية .. كيف أصبحت غريبة في أوطانها ؟وحفل الشعر العربي منذ القدم بالتهكم والهزل، وما الهجاء سوى أحد فنون هذا الشعر، إذ يقوم على التندر بالمهجو والتهكم به، ومن هجاء أحد الشعراء لبني تميم وتعييرهم بأكلهم للضب الذي يدل على الفقر والمسبغة بما يتنافى مع ما يدعونه من مفخرة وكرم قول بعضهم:
إذا ما تميمي أتاك مفاخراً
فقل: عد عن ذا، كيف أكلك للضب؟
وهذا الشاعر الضبي يقذع في السخرية من بني العنبر الذين لا يغيثون قومه حين يستغيثون بهم، ويقول إن من يرجوهم مع أنهم لا يسارعون إلى نجدة كمن يرجو الغوث من الأجنة في بطون أمهاتها فقال فيهم:
وإني لأرجوكم على بطء سعيكم
كما في بطون الحاملات رجاء
وحين أصبح الخلفاء والأمراء العرب القدامى يعيشون في ترف؛ طلبوا من يضحكهم ويسري عنهم، لذلك كثر الأدباء من شعراء وغيرهم على أبوابهم لإضحاكهم بالفكاهات والنوادر، ومنهم أشعب وأبو دلامة وأبو الحسين الخليع وأبو العبر، حتى كان منهم من يقلد أصوات البهائم والطيور ولهجات الأقطار المختلفة تقليداً دقيقاً بأسلوب مضحك..
روى الجاحظ عنهم في (البيان والتبيين) أن من أشهرهم أبا ربوبة الزنجي الذي كان يقف بباب الكرخ فينهق فلا يبقي حمار إلا وينهق معه!
وحكى الثعالبي في (يتيمة الدهر) أن أبا محمد بن زريق الكوفي، كان كاتباً شاعراً، وكان من عجائب الدنيا في الفكاهة والمحاكاة، وكان يتردد على مجلس الوزير المهلبي ويحكي له النوادر ويقلد الآخرين فيعجب الناظر والسامع له.
وفي القرن الرابع الهجري صار للشعر الهزلي مجتمع وشعراء متخصصون، على رأسهم ابن الحجاج البغدادي الذي كان يعتبر صاحب مذهلة وأصالة في مدرسة الهزل، وعاصره ابن سكرة الذي اشتهر بهجائه الهزلي بجارية تدعى (ضمرة) قال الثعالبي: «إنه نظم في هجائها عشرة آلاف بيت». وقيل فيه وفي ابن الحجاج : «إن زماناً جاد بهما لسخي». وفي مصر عرف محمد الوهراني في القرن السادس الهجري بإمامته في الفكاهة, وبخاصة رسائله الهزلية ومقاماته التي تفضي بلاغة وظرفاً.
أبو نواس في السوق:
استفاضت كتب الأدب الفكاهي بأخبار عرب البادية, من ذلك أن الأعرابي في سبيل الظرف والفكاهة كان لا يحفل بالمال والكسب المادي، فقد روى ابن الجوزي أن أبا نواس خرج إلى السوق لشراء أضحية فاجتمع بأعرابي ظريف، فقال أبو نواس «لأجربنه لأرى صنيعه»، فسأله شعراً:
أيا صاحب الشاة التي قد تسوقها
بكم ذاكم الكبش الذي قد تقدما
فرد عليه الأعرابي:
أبيعكه إن كنت ممن يريده
ولم تك مزاحاً بعشرين درهما
فقال أبو نواس:
أجدت رعاك الله رد جوابنا
فأحسن إلينا إن أردت التكرما
فقال الأعرابي:
أحط من العشرين خمساً فإنني
أراك ظريفاً فأقبضن مسلّما
فدفع إليه أبو نواس خمسة عشر درهماً وأخذ كبشاً يساوي ثلاثين درهماً.
ولعل رواة الأدب العربي القدامى قد عنوا بالظرف والفكاهة دفاعاً عن مكانة العربي وإن كان بدوياً، ودلالة على أنه يرتفع إلى مصاف أرقى الناس فكراً وأترفهم عيشاً، وإن كان من سكان البادية أهل الخشونة في العيش والحياة الفقيرة المتواضعة.
وأعلام الفكاهة في الأدب العربي القديم كثيرون، ولعل بشار بن برد وأبا العيناء (من شعراء العصر العباسي الأول) يأتيان في المقدمة، وأما بشار بن برد فله نوادر ساخرة من أعلام عصره صارت مضرب الأمثال على كل لسان وتعجب منها الأدباء، لكنها جرت على صاحبها الويلات والعناء، فبسبب هجائه الساخر جافاه الصوفي واصل بن عطاء وأهدر دمه.
ولكن لروح بشار الساخرة فضل عليه أيضاً؛ فقد قربته من الخليفة المهدي، وتغاضى عن إساءته لأقرب الناس إليه، فهذا المعلى بن طريف مولى المهدي سأل مرة الحاضرين من علماء وشعراء عن المقصود بالنحل والشراب في الآية (وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً ومن الشجر ومما يعرشون، ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون)، فقال بشار: النحل والشراب هما اللذان يعرفهما الناس، فقال له المعلى: «هيهات يا أبا..! النحل بنو هاشم والشراب هو علمهم»، فقال له بشار: «أراني الله طعامك وشرابك وشفاءك فيما يخرج من بطون بني هاشم» فغضب المعلى وشتم بشاراً، وظن أنه نال منه مقتلاً عند الخليفة، فلما بلغ أمرهما المهدي دعاهما وحدثه بشار بالحديث، فضحك المهدي كثيراً حتى أمسك بطنه.
فكاهات الجاحظ
وإذا كان علم الجاحظ في قمة العلم العربي لعصره الذهبي الأول، فإن فن الجاحظ الفكاهي يعتبر قمة الفن العربي الفكاهي لكل عصر.. ولا عجب في ذلك؛ فالعلم والفن أخوان متلازمان، ويرى فيهما خير ما في أساس التركيب؛ لأن الضحك هو أول خير يظهر من المولود، وعليه ينبت شحمه، ويكثر دمه الذي هو علة سروره، ومادة قوته. يقول الجاحظ: «ومتى أريد بالمزح النفع، وبالضحك الشيء الذي جعل له الضحك، صار المزح جداً والضحك وقاراً..».
لذلك شاعت الفكاهة، وعوامل السرور في الجاحظ الذي يرى ذلك أمراً ضرورياً لتنشيط الذهن وإدخال السرور على القلب، وتزويد الحي بطاقة خلاقة في مجالي العلم والعمل، ولهذا يقوم كتابه (البخلاء) الذي جمع أروع نوادر الأشحاء وحكايتهم التي يحتجون بها للبخل والاقتصاد، ويورد من الطرائف الكثير، فيقول: «ولك في هذا الكتاب ثلاثة أشياء: تبين حجة طريفة، وتعرف حيلة لطيفة، واستفادة نادرة عجيبة». ويقول: «وأنت في ضحك منه إذا شئت، وفي لهو إذا مللت الجد..».
ومن أروع ما كتب الجاحظ في هذا المقام (رسالة التربيع والتدوير) التي سخر فيها من الوزير أحمد عبدالوهاب، ونعته ووصفه بالعرض والضخامة أو التربيع والتدوير.
أقام الجاحظ سخريته على أساليب فنية محكمة.. يخرج في السخرية من موضوع إلى موضوع، ويقلبه على جميع الجوانب، ويمزقه دون أن يحس القارئ بغير الإعجاب بالأديب، والاندماج في روعة بيانه وجمال تصويره، وقد اعتمد الجاحظ على المتناقضات في السخرية من منظر الوزير ومخبره مثل قوله: «ومن غريب ما أعطيت وبديع ما أوتيت أنا لم نر مقدوداً واسع البطن غيرك، ولا رشيقاً مستفيض الخاصرة سواك.. فأنت المديد وأنت البسيط وأنت الطويل وأنت القصير.. فيا شعراً جمع الأعاريض، ويا شحماً جمع الاستدارة والطول».
ويرفع الجاحظ الوزير إلى أعلى عليين تهكماً، ثم ينزل به إلى الدرك الأسفل مبالغة في التقريع والسخرية.. فيقول له: «وأنا أبقاك الله أعشق إنصافك كما تعشق المرأة الحسناء، وأتعلم خضوعك للحق كما أتعلم الفقه في الدين»، ويطنب في ذلك أيما إطناب، ثم ينتقل الجاحظ إلى العلم والحكمة فيسأل الوزير ابن عبدالوهاب: «فخبرني ما جرى بينك وبين هرمس في طبيعة الفلك، وعن سماعك من أفلاطون، وما دار بينك وبين أرسطو طاليس.. وأي نوع اعتقدت، وأي شيء اخترت؟ فقط أبت نفسي غيرك.. ولولا أني كلفت برواية الأقاويل ومغرم بمعرفة الاختلاف، ما سمعت من أحد سواك وما انقطعت إلى أحد غيرك».. إنه يراه جامع العلوم والحكم!
وهكذا تهكم الجاحظ من الحياة والأحياء وصاغ تهكمه على أساس من العلم الراسخ والفلسفة العميقة والفن الباهر، بل إنه تهكم من الحياة كلها بصغارها وكبارها، وعلمائها وأدعيتها، بل سخر مما يسمى بـ(العظمة) وجعلها هباءً منثوراً، ومع ذلك فهو بسخريته يبصرنا بالحياة، ويدفعنا إلى التواضع والعمل، ولنرتفع عن الصغائر كلها..
وهكذا سبق الجاحظ بأدبه الساخر فولتير وموليير وغيرهما من كتاب أوروبا الساخرين في القرنين السابع والثامن عشر، وما تلاهما بعد الجاحظ بألف سنة وأكثر.
الكاتب/ جاد أرهمي
المغرب
أترك تعليقا
ليست هناك تعليقات