الأمير عبد القادر الجزائري : الرجل الذي تحدى فرنسا

بقلم / كودري محمد رفيق

بزغ نور عام 1827 بلهيب معركة نافارين، معركة بحرية دامية بين البحرية العثمانية والبحرية المصرية ضد قوى التحالف البريطاني الفرنسي الروسي، لتنتهي بإنتصار قوى التحالف ويجد الجيش العثماني نفسه في أمواج الموت يلتطمُ.

تكبدت الدولة العثمانية في هذه المعركة خسارة كبيرة تمثلت في دمار الأسطول الجزائري بالكامل، الأسطول الذي يمُثل قلب البحرية العثمانية إبتلعته أمواج البحر الطامي لتبقى الجزائر بدون قوى كافية تحرسها.

ولأن القطيع السائب لابد أن تفترسه الذئاب، إنطلقت فرنسا لغزو الجزائر مستغلة فرصة دمار الأسطول الجزائري الحامي الأول والأكبر لسواحل الجزائر.

 وصلت القوات الفرنسية إلى ميناء سيدي فرج لتقوم بعملية الإنزال هناك ولتواجهها قوات الداي حسين -الحاكم العثماني للجزائر- في معركة عرُفت بمعركة سطاوالي، ليخسر فيها الجيش الجزائري ولتسيطر فرنسا على السواحل الجزائرية ولتؤسس لإستعمار سيدوم  132 سنة.

ربما يتسائل البعض، لماذا فرنسا بالذات؟ لأن فرنسا دائما رأت نفسها على أنها الحامي الأول للكاثولوكية و يكفي أن تعرف أن الحملات الصليبية تم إعلانُها من فرنسا لا من روما. والجزائر في ذلك الوقت كانت تعُرف بأرض الإسلام والجهاد، لأنها كما أسلفنا كانت القاعدة البحرية الأولي للأسطول العثماني الذي حكم البحِار لقرون، لذلك يمكن أن نقول أن هذه الحملة كانت حملة صليبية بالدرجة الأولى وهذا رأي مظفر بتأييد العديد من المؤرخين.

من المستشرقين من يقول أن فرنسا دخلت الجزائر لنشر الحضارة. هذا قول لا يخرج إلا من لسانٍ عقل صاحبه جاهل بالتاريخ أو متجاهل للتاريخ. إن فرنسا كانت مازالت مغُشاة بآثار الجاهلية؛ جاهلية العصور الوسطى وماقبلها، كانت عاجزة عن بناء دولتها وعاجزة عن تكوين إقتصادها، لهذا كانت تستدين الطعام منه الحبوب كالقمح من الجزائر، وحادثة المروحة - والتي تعُتبر أحد أسباب الحملة الفرنسية – كان سببها رفض القنصل الفرنسي إعطاء إجابات مقنعة للداي حسين عن سبب تأخر فرنسا عن دفع ديونها، فصفعه الداي بمروحته على وجهه، لتعتبرها فرنسا إهانة للدولة وتتخذها أحد أسباب الغزو. الفرد الجزائري في ذلك العصر كان مثقفا جدا، و يكفي ماقاله الرحالة الألماني و يليام شيمبرا الذي زار الجزائر بين عامي 1831 و 1832 حيث قال "بحثت عمدا عن عربي واحد في الجزائر لا يعرف القراءة والكتابة وللكني لم أجد، في حين أني وجدت أشخاصا في جنوب أوروبا لا يعرفون لا القراءة و لا الكتابة فيصعب هناك أن تجد شخصا متعلما".

خلع الحضارة الإسلامية وهدم القيم والأخلاق الإسلامية، كان من أهداف فرنسا اللكبرى في الجزائر. من بين 112 مسجدا في الجزائر العاصمة لم يبقى إلا 5 مساجد والباقي حُول إلى مستودعات وإسطبلات. أوامر صارمة أ أعطيت للجنود الفرنسيين من طرف الججنرال توماس روبرت بيجو تأمر بأخذ كل اللكتب من المساجد وإرسالها إلى فرنسا لترجمة المحتوى ليستفيد منه الفرنسي.

بعد معركة سطاوالي، إنتشر الجنود الفرنسيون في المدن وإقتحموا المنازل للنهب والسرقة، فكانوا يأتون بأقراط النساء بآذانهن بعد أن يقطعوها بالسكين.
 إستوشام النساء الجزائريات صار شرا لا بد منه، لأن نصارى ذلك الزمان كانوا يتقززون من الوشم وبالتالي أصبح الشيئ الوحيد الذي يمكن أن يحمي النساء الجزائر يات من الإغتصاب فالجنود الفرنسيون لا يقتربون من المستوشمة. أنهارٌ من الدماء حولت الجزائر إلى بيداء ظلمٍ وقهر... 
ومن رحم هذه الفضائع خرج بطل إسمه عبد القادر الجزائري، ليعُرف بالأمير و يعُرف بالقديس بين الأمراء والأمير بين القديسين.

الأمير عبد القادر ابن محي الدين الجزائري

وُلد في السادس من ديسمبر من عام 1808 قرب مدينة معسكر، تربى في كنف عائلة متدينة تخشى الله فقد كان والده "محي الدين" مقدماً في معهد ديني، ليقضي عبد القادر الغلُام سنوات طفولته يتعلم في زاوية أبيه، فيقُال أنه تعلم القراءة والكتابة وهو لم يتجاوز الخامسة، حفظ القرآن وهو في الرابعة عشرة ويتوجه لقضاء مناسك الحج وهو في السابعة عشرة وليعود إلى بلده الجزائر قبل الغزو الفرنسي بأشهرٍ قليلة.

أتى الغزاة، وعبد القادر بمعرفته بالكتاب والحكمة التي أوتيها في زاوية أبيه، علم فورًا أن وقت الجهاد قد حان , وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين من عمُره، إنطلق لتوحيد القبائل ونجح في ذلك، أسس دولة إسلامية وبويع أميرا لها، فأنشاء الجيش وأعلن الحرب على فرنسا.

مرت خمس سنوات منذ إعلان الدولة والحرب، تكبدت فيها فرنسا خسائر هائلة وذاقت فيها الويلات من هذا الأمير الشاب، فعلِم القادة الفرنسيون أنه حان وقت إنهاء كابوس الأمير، فإتفقوا على الدخول معه في معركة يجب أن تكون الأخيرة. 

إلتقى الجيشان في وادي المقطع في الغرب الجزائري، في 28 جوان 1835 ، الجيش الفرنسي مدججا بالعتاد الثقيل بقيادة الجنرال ألفونسو تريزيل، وجيش المقاومة الجزائرية بأسلحته البدائية يقوده الأمير عبد القادر. 

تبدأ المعركة وتنتهي بفوز جيش الأمير وتترك خسائر فرنسية في الجيش مهينة، جنود جرحى، جنود قتلى، ظلمات بعضها فوق بعض. 

إنتصاره في معركة المقطع أكسبه هيبة ومكانة لدى القبائل وإستطاع بعد ذلك تأسيس عاصمة لدولته، عاصمته متنقلة سماها الزمالة، عاصمة تحوي ثلاثون ألف ساكن وتحوي مكتبته ذات الثلاثين ألف كتاب. 

بقيت الأمور تسير كما يشتهي الأمير إلى أن جاء عام 1843 بمعركة الزمالة والتي هجم فيها الجيش الفرنسي بقيادة هنري دورليان على عاصمة الأمير الذي كان في المغرب، ليستغل الجيش الفرنسي ويشن حملة قو ية إنتهت بتدمير العاصمة كليا وأسًر العديد من الجنود والرعايا. 

عاد الأمير من المغرب وبدا أن فقدانه لعاصمته لم يوقفه من ضرب فرنسا، فواصل شن هجوماته على الجيش الفرنسي حتى إضطرت فرنسا أن تعقد معه معاهدة سلام، فقبل الأمير المعاهدة، وإستمر حاكما لدولته بالقسط حتى نقضت فرنسا المعاهدة، نقضتها لأنها لم تكن تنوي إطلاقا إبقاء الأمير حيا أو حرا، لذلك إتبع الجنرال توماس روبرت بيجو سياسة الأرض المحروقة ليرُغم الأمير عبد القادر على الإستسلام، وأعلن للجزائريين أنه سيقتحم الجبال و يصل إلى منازلهم و يحرق قرُاهم و يقطع أشجارهم، وبالفعل إستمرت فرنسا بالقمع وإرتكاب المجازر في حق الشعب الجزائري حتى إضطر الأمير للإستسلام، فتم إعتقاله ونقله إلى فرنسا، ليطلبه الحاكم الفرنسي نابليون الثالث و يكُرم نزله و يقيم له الولائم و يطلب منه أن يتخذ من فرنسا موطنا ثانيا له، فيرفض الأمير، فيقرر نابليون أن يطلق سراحه شريطة ألا يعود إلى الجزائر، ليختار الذهاب إلى عاصمة الخلافة العثمانية إسطنبول، فيستقبله الخليفة العثماني و يكُرم نزله، ليطلب منه الأمير أن يأذن له بالذهاب إلى دمشق، فيأذن له الخليفة ويسافر الأمير ليجد نفسه ذائع صيتٍ في دمشق فيتخذه شعبها وجيها و يصبح هناك القائد الديني والسياسي والكاتب والشاعر.

أثناء تواجده في دمشق، إندلعت فتنة بين المسلمين والنصارى، فيتدخل الأمير لفضها، ليتبين له أن الحق في جانب النصارى، فيختار الوقوف معهم فيدافع عنهم ويخبأهم عن المسلمين الذين إرتكبوا مجازر شنيعة ومهولة في حق النصارى، خبأهم في قصره وعندما زاد عددهم ووصل 15 ألف أرسلهم إلى قلعة المدينة. 

وبهذا كتب الأمير تاريخا مجيدا لنفسه بأفعاله المجيدة التي وفقه الله لفعلها، ليصبح بطلا إنسانيا وبطلا إسلاميا و يكون تجسيدا حيا للآية الكريمة … "وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ" ...