طربنا بالأدب كما طرب به الأولون، تنوعت أصنافه و تطورت و تطورنا معها، لكن لما لم تلحق كلها بهذا الركب؟
فلكل فن بدايات و لكل بدايات أسباب، الأ أن هناك صنف منسي في الأدب العربي لم تكن له بدايات لتكّونها الأسباب أو لم تكن له أسباب لتكّون البدايات، ألا و هو أدب الخيال العلمي , فلم يكن أدب الخيال العلمي العربي دائماً في دائرة الضوء في عالمنا العربي , بل كان أدباً منسياً لسنوات عديدة , حتى بزغ نوره في العصر الحديث .
إن الوجود الهامشي لهذا النوع من الأدب في العالم العربي بالمقارنة مع صناعة أدب الخيال العلمي الغربية الضخمة , يرجع إلى مجموعة من العوامل اهمها
الإفتقار إلى التطور العلمي في العالم العربي , فإذا تدبرنا قليلا سنجد أن ضعف التطور العلمي في الأمة قد أنتج ضعف خيال علمي في مخيلة العربي، كما يمكن أن نعكس السبب و النتيجة فيكون السبب هو النتيجة و تكون النتيجة هي السبب , فالتطور العلمي يبدأ بالخيال لا بغيره، ليتحول الخيال الى فكرة و من فكرة الى تنفيذ و من تنفيذ الى تطور.
اذا ربما لا يمكننا أن نأخذ بضعف التطور العلمي كسبب، و هذا ليس للحجة السابقة فقط، بل لسبب اخر أدهى و أمر، و هو أن هذا النوع من الأدب كان قد ظهر منذ القدم، بالتحديد في عصورهم الوسطى أو في عصورنا الذهبية , فيمكن أن نتخذ العالم ابن النفيس و قصصه كحجة، كما يمكن اتخاذ الطبيب البغدادي كحجة الذي كتب كتاباته في القرن الثالث عشر و التي أثرت بدورها على كلا من جورج لوكاس و فرانك هربرت , و لكن علم اليوم ليس هو نفسه علم البارحة و خيال اليوم ليس هو نفسه خيال البارحة، لذلك لا بد لنا أن لا نبالغ في ادارة عجلتنا فترمي بنا نحو الماضي البعيد، من الأفضل لنا أن ندرس واقعا قريبا , و لا يوجد أفضل من أن نستقر في عصر الثورة الصناعية فهي الأقرب الى ما نعيشه.ء اذا عرفنا حال الأمة في هذا العصر، سندرك أنه من السذاجة أن نسأل سؤالنا الذي نكتب من أجله، فقد كانت الأمة تعيش مسلسل حلقاته متشابهة من ثورات، احتلال، ثورات أخرى، استقلال، بناء ثم هدم أو هدم بعده هدم، نكبات متكررة تهرم الدماغ أنتجت أمية حذفته كليا, هذا الأمر بالتأكيد لن يعطي الوقت للعربي أن يسرح بخياله بعيدا خاصة الى خيال علمي فهو قد طُرد من قطار العلم أصلا, فحتى وان فكر العربي و سرح سيكون انتاجه في الدين و السياسة و الاجتماع، فإذا لم يكن هناك استقرار لن يكون هناك تفكير بعيداً عن هذه المجالات، كما أنه لم تكن هناك نهضة علمية من الأراضي العربية لتفتح افاق الفكر العربي ومخيلته ; تفتحه لخيال يمكن أن يتحول الى حقيقة، فبما أننا أسلفنا الذكر أن العلم يفتح بالخيال لا بغيره، فكذلك الاستقرار و السعي نحو التقدم و العمل على العلم سيفتح خيالا يمكن أن يستحيل الى حقيقة فيكون كليهما لبعضهما البعض نصيراً , لذا فأظن أن الطريق امامنا طويل قبل أن يصبح أدب الخيال العلمي العربي سائداً .
كما ان هناك عدة عوامل اخرى تلعب دوراً كبيراً في تضييق الخناق على أدب الخيال العلمي مثل الرقابة الشديدة على الأعمال الأدبية التي قد تخالف بعض العادات والتقاليد والمعتقدات الدينية , وأيضاً الحد الأدنى من المشاهدين والقراء لمثل هذا النوع من الأدب .
هل كان أدب الخيال العلمي موجوداً في العصر القديم ؟
في الواقع يعود الخيال العلمي في العالم العربي إلى عدة قرون , وكما أسلفنا فإن من أقدم الأمثلة على ذلك , العالم العربي " ابن النفيس "والذي كتب كتاب " الرسالة الكاملية " , والمعروفة أيضاً باسم "رسالة فاضل بن ناطق" , وتُعتبر أول رسالة فلسفية كتبها ابن النفيس وتعتبر مثالاً مبكراً لروايات الخيال العلمي , حيث قدم فيها عدة مفاهيم من الخيال العلمي مثل الولادة التلقائية , ونهاية العالم , وإناس يعيشون في عزلة عن العالم الخارجي في جزيرة مهجورة .
حيث سردت الرواية قصة طفل متوحش نشأ من مواد غير حية , وتعلم بنفسه , وعاش في عزلة تامة على جزيرة مهجورة , حتى تمكن في نهاية المطاف من الإتصال بالعالم الخارجي , وتصل الأمور إلى ذروتها في نهاية الرواية حيث تحدث كارثة تؤدي إلى نهاية العالم .
وكذلك اتسمت بعض قصص " ألف ليلة وليلة " بطابع الرواية الخيالية بما في ذلك قصص السندباد البحري الشهير .
بينما يعتقد بعض المؤرخين الأدبيين أن أول كاتب للخيال العلمي العربي كان " الطبيب البغدادي " في القرن الثالث عشر , والذي أثرت كتاباته على كل من الكاتب " جورج لوكاس " , و " فرانك هيربرت " .
أدب الخيال العلمي في العصر الحديث
بحلول القرن العشرين , أصبح هذا النوع من الأدب مهيمناً عن طريق ترجمة أدب الخيال العلمي الغربي
وفي العصر الحديث قامت مصر بإعادة إحياء الخيال العلمي العربي في أربعينيات القرن العشرين مثل الدراما الخيالية التي بثها المفكر والشاعر المصري " يوسف عز الدين عيسى " , والذي تميزت أعماله الأدبية بالخلط بين الخيال والواقع بشكل رمزي لخلق تحليل دقيق لواقعنا الذي نعيشه , حيث كتب عن موضوعات مثل , حمير فائقة الذكاء تتفوق على الجنس البشري , وأشعة بنفسيجية غامضة أصابت الأرض وجعلت كل البشر متطابقين .
ومن بين العديد من الكتّاب المصريين المشهورين بكتابة أدب الخيال العلمي كان الدكتور نبيل فاروق , وأحمد خالد توفيق , أوميمة خفاجي , أحمد سويلم , نهاد شريف , ومحمد العشري , وكذلك كان الدكتور " مصطفى محمود " من أوائل الأدباء الذين كتبوا في هذا النوع من الأدب , حيث قام بنشر ثلاث روايات في الخيال العلمي وهم - الرجل تحت الصفر ( 1965 ) , العنكبوت (1965) ، والخروج من التابوت (1967) .
ولم يغب أدب الخيال العلمي في عصرنا الحديث عن سائر أرض العرب , إذ لحقت المغرب بهذا الركب , من خلال بعض الأدباء والروائيين مثل "محمد عزيز الحبابي " الذي قام بكتابة " الإكسير " في عام 1974 و وكذلك "محمد عبد السلام البقالي" عندما كتب " الفيضان الأزرق " في عام 1079 .
وفي العراق وسوريا شهدت الثمانينات من القرن العشرين ارتفاعاً ملحوظاً في أدب الخيال العلمي , حيث كتب " طالب عمران " من سوريا العديد من روايات الخيال العلمي مثل " الأزمان المظلمة " , " عوالم من الأمساخ " , " النفق " , " في كوكب شبيه بالأرض " , " البحث عن عوالم أخرى " , " ليس في القمر فقراء " ... وغيرها .
وسرعان ما أنتج الخيال العلمي العربي بعد ذلك العديد من الأدباء الذين أنتجو الكثير من الروايات والمجموعات القصصية القصيرة في أنحاء وطننا العربي , مثل " تيبا أحمد الإبراهيم " من الكويت , و " أشرف فقيه " من السعودية , و " موسى ولد ابنو " في موريتانيا , و" وسليمان محمد الخليل " من الأردن , و " لينا كيلاني " من سوريا .
وفي السنوات القليلة الماضية , ازاد الاهتمام النقدي بالخيال العلمي , واستطاعت رواية الخيال العلمي العربية أن تحصد العديد من الجوائز في مسابقات الرواية العربية , مثل رواية " فرانكشتاين في بغداد " من تأليف الكاتب العراقي " أحمد السعداوي " , وهي قصة رعب قوطية تتحدث عن رجل يقوم بجمع بقايا جثث ضحايا التفجيرات الإرهابية خلال شتاء 2005 في بغداد , ويقوم بعد ذلك بتجميع تلك البقايا معاً لينتج كائناً بشرياً غريباً , ليقوم ذلك الكائن بالانتقام من المجرمين الذين تسببوا في قتل أجزاءه التي يتكون منها .
كما حققت رواية " يوتوبيا " للدكتور " أحمد خالد توفيق " أفضل المبيعات حين نشرها وتم ترجمتها إلى الإنجليزية عام 2011 , وتحكي عن مصر عام 2023 , حيث عزل الأغنياء انفسهم في الساحل الشمالي عن بقية الشعب من الفقراء الذين يعانون من أجل الحصول على ما يسد رمقهم .
كما اثبتت منطقة الخليج العربي - على وجه الخصوص - انها أرض خصبة للخيال العلمي العربي , فقد أطلت علينا الأديبة الكويتية " طيبة احمد إبرهيم " بعدة روايات في مجال الخيال العلمي , جعلتها تستحق لقب " رائدة ادب الخيال العلمي في الخليج " عن جدارة , مثل رواية " الإنسان الباهت " - والتي تناولت قصص عن أطفال الانابيب وقدمت احتمالا مبتكرًا حول انفكاك مكونات الخلية وإعادة تركيبها بشكل مغاير يغني عن الإمداد الخارجي للطاقة بالنسبة للجسم الحي و وكذلك رواية " القرية السرية " و " الإنسان المتعدد " .
إذا فيمكننا القول في نهاية مقالنا .. أن بزوغ فجر أدب الخيال العلمي أصبح جلياً في اوساط الأدب العربي , على الرغم من اننا ينبغي علينا أن نقطع أشواطاً طويلة حتى نصل إلى ذلك الخيال الذي تنبأ بعضه بما وصلت إليه حضارة العالم اليوم , وينبغي أيضاً ان نخرج من تلك القوقعة التي لازمتنا ولازمناها اعواماً طويلة , وحصرنا مواضيعنا إما في التقليد الباهت للخيال العلمي الغربي أو في اقتصارنا على خيال من ثقافتنا الشعبية التي لا تعدو كونها أساطير بعيدة عن التفكير العلمي , وكأننا خائفين أن نخطو خطوة نحو شيء لا نتقنه ولا نعرفه حق المعرفة .. ولكن اظن الآن أن الامر يستحق المغامرة .
كتابة المقال / صديق المدونة الباحث : محمد رفيق - بالمشاركة مع مدونة عالم المعرفة
مصادر /al-fanarmedia - middleeastmonitor
مقال جميل
ردحذف