إذا ذهبت يوماً إلى الفضاء الخارجي بدون حماية لجسدك , فأنك سوف تموت بالتأكيد !
إن عدم وجود ضغط من شأنه أن يجعل الفراغ يقوم بسحب الهواء من جسمك إلى الخارج , كما أن الغازات الذائبة في سوائل جسمك ستتمدد , مما يدفع الجلد إلى الخارج وسيجبره على الانتفاخ مثل البالون , بينما ستتمزق طبلة الأذن والشعيرات الدموية , ومن ثم يبدأ دمك في الغليان , وحتى لو نجوت من كل ذلك , فإن الإشعاعات المتأينة في الفضاء قد تمزق حمضك النووي داخل خلاياك , ولكن لحسن الحظ , فانك ستفقد الوعي خلال 15 ثانية , بينما تموت بعد 90 ثانية .
ولكن يمكن لمجموعة واحدة من الكائنات الحية البقاء على قيد الحياة في تلك الظروف في الفضاء الخارجي ودون حماية , تلك الكائنات هي مخلوقات صغيرة تُسمى tardigrades أو دببة الماء والتي يبلغ طولها حوالي 1mm .
للوهلة الأولى - تبدو كائنات الـ Tardigrades مخلوقات مروعة , فهي تمتلك وجها قصيراً بديناً تتخلله طيات اللحم , ولديها ثمانية أرجل مع مخالب شرسة تشبه مخالب الدببة , كما تمتلك أسناناً تشبه الخناجر تساعدها على تناول الفريسة .
ولكن لا داعي للقلق - فـ Tardigrades هي واحدة من أصغر الحيوانات في الطبيعة حيث لا يزيد طولها عن 1,5 مم , ولا يمكن رؤيتها إلا باستخدام المجهر وهي معروفة باسم " الدببة المائية " .
هناك حوالي 900 نوع معروف من تلك الحيوانات الصغيرة , ويتغذى معظمها عن طريق امتصاص عصارة الطحالب , والأشنات , والنباتات الحزازية , بينا البعض الآخر من آكلات اللحوم , حيث يمكنها ان تتغذى على الأنواع الأخرى من الـ tardigrades .
دببة الماء هي حقاً كائنات ضارية في القدم , فقد تم تأريخ أحافيرها إلى العصر الكمبري قبل اكثر من 500 مليون سنة , و كان من الواضح أنها كائنات متميزة منذ اكتشافها .
تم اكتشاف دببة الماء في عام 1773 م , من قِبل قس ألماني يُدعى " يوهان أغسطس أفرايم " , وبعد 3 سنوات , اكتشف رجل الدين البريطاني والعالم Lazzaro Spallanzani أن تلك الكائنات تمتلك قوى خارقة .
في عام 2007 , تم إرفاق الآلاف من حيوانات الـ tardigrades بالقمر الصناعي وتم إطلاقه في الفضاء , وبعد عودة القمر الصناعي إلى الارض , فحصه العلماء ليجدوا أن العديد من تلك الكائنات الصغيرة قد نجت , حتى ان بعض الإناث منها قد وضعن البيض في الفضاء , وخرج الصغار أصحاء تماماً .
لا يقتصر الأمر فقط على الفضاء الخارجي , ولكن يبدو أن تلك المخلوقات الصغيرة بارعة في العيش في بعض أقسى مناطق الأرض ظروفاً , فقد تم اكتشافها على ارتفاع 5546م (18,196 قدم ) فوق قمة جبل من سلسلة جبال الهيمالايا , وكذلك تم العثور عليها تعيش في الينابيع اليابانية الساخنة , وفي قاع المحيط في القارة القطبية الجنوبية المتجمدة , ويمكن لتلك الكائنات أن تتحمل كميات هائلة من الإشعاع , وكذلك تتحمل دراجات الحرارة العالية , فيمكنها مثلا أن تبقى على قيد الحياة إذا ما تم تسخينها إلى 150 درجة مئوية , كما يمكنها الحياة إذا ما تم تجميدها إلى درجة الصفر المطلق تقريباً .
فكيف تنجو مثل تلك المخلوقات المتناهية الصغر في ظل تلك الظروف القاسية ؟
وكيف طورت مثل هذه القوى العظمى في مواجهة البيئة في كل ظروفها ؟
اتضح أن حيوانات tardigrades لديها مجموعة من الحيل التي تساعدها على الحفاظ على حياتها في ظل تلك الظروف , والتي تفتقدها معظم الكائنات الحية الأخرى .
كيف تعيش دببة الماء بدون ماء لفترات طويلة ؟
ما أذهل العلماء بشأن تلك الكائنات , قدرتها على البقاء بدون ماء لعدة عقود , ففي عام 1948 , زعمت عالمة الحيوان الإيطالية " تينا فرانشيشي " أن دببة الماء التي تم العثور عليها في الطحالب المجففة الموجودة من ضمن عينات المتحف والتي يزيد عمرها عن 120 عاماً - أمكن إحياءها بعد إعادة ترطيب درجة حرارة الطحالب , فقد لاحظت أن دببة الماء الموجودة بها تعود للحياة وتحرك ساقيها الأمامية .
على الرغم من أن تلك النتيجة لم يتم تكرارها إلا أن هذا لا يبدو مستحيلاً , ففي عام 1995 , قام بعض العلماء بإعادة مجموعة من حيوانات دببة الماء إلى الحياة بعد 8 سنوات من جفافها .
يشرح " الباث توماس بوثبي " - من جامعة نورق كارولينا في تشابل هيل - هذا الأمر , فيقول " أنه عندما تجف الخلية في معظم الكائنات الحية فإن أغشيتها تتمزق وتسرب سوائلها وتتفكك بروتيناتها وتتجمع معاً مما يجعلها عديمة الفائدة , كما سيبدأ الحمض النووي للخلية في التفتت طالما ان الخلية أصبحت جافة "
" ولكن بطريقة ما فإن كائنات الـ tardigrades تتجنب كل هذا , فبما أنها قادرة على البقاء على قيد الحياة في عدم وجود الماء , فيجب أن يكون لديها حيل قوية تمنع أو تصلح الأضرار التي قد تتعرض لها خلاياها عند فقد الماء " .
ولكن كيف تفعل ذلك؟
واحدة من الإكتشافات الرئيسية التي قد فسرت هذا الأمر ظهرت عام 1922 , من قِبل عالم ألماني يُدعى " H. Baumann " , حيث وجد انه عندما يجف الـ tardigrade فإن رأسها وأرجلها الثمانية تنكمش وتتقلص , ومن ثم تدخل في حالة معلقة تُشبه الموت , حيث يتجعد جسمها , ويصبج جلدها كقشرة جافة , وسُميت تلك الحالة باسم " tun " أو حالة الإنضغاط , حيث يتباطيء الأيض إلى %0,01 عن المعدل الطبيعي , ويمكنها أن تبقى في تلك الحالة لعقود , وتنشط فقط عندما تتلامس مع الماء .
بالإضافة إلى دببة الماء ,فإن بعض الديدان الخيطية , وبعض أنواع البكتيريا يمكنها أيضاً أن تنجو من الجفاف , وتفعل ذلك عن طريق صنع الكثير من مادة سكرية معينة تُسمى " طرهالوز trehalose " تعمل على استقرار المكونات الرئيسية للخلية مثل البروتينات والأغشية , كما يمكن ان يلف الطرهالوز نفسه حول أي جزيئات مائية متبقية داخل الخلية , ويوقفها عن التوسع السريع إذا ارتفعت درجة الحرارة , حيث ان جزيئات الماء التي تتسع وتتمدد بشكل سريع يمكنها أن تمزق الخلايا , وهذا قد يكون قاتلاً .
قد تتوقع أن الـ tardigrades تستخدم تلك الحيلة من أجل البقاء على قيد الحياة عند التعرض لظروف الجفاف , ولكن الحقيقة - بعض الأنواع منها فقط من تفعل ذلك , بينما بقية الأنواع لا تحتوي أصلاً على سكر الـ الطرهالوز , أو تنتجه بكميات قليلة غير قابلة للكشف .
وهذا يُشير إلى أن الـ tardigrades قد يكون لديه حيلة أخرى فريدة تمكنه من البقاء على قيد الحياة , فنحن نعلم أن تلك الكائنات تدخل في حالة من السبات الأشبه بالموت , ولكن ما هي العمليات التي تؤدي لذلك - هذا ما زال يُشكل لغزاً أمام العلماء .
على الرغم من ذلك يعتقد بعض الباحثين أن تلك الآلية تعمل عن طريق صنع الـ tardigrades للكثير من مضادات الأكسدة , والتي تشمل بعض المواد الكيميائية مثل فايتامينات C و E والي تعمل على امتصاص المواد الكيميائية الضارة التي من شأنها أن تُنتج تفاعلات خطيرة تضر بالخلية .
لذا فإن نظرية مضادات الأكسدة قد يفسر واحدة من قدرات الـ tardigrades الخارقة , فعندما تتعرض للجفاف لفترة طويلة , ويتضرر الحمض النووي الخاص بها , يمكنها أن تعيد إصلاحه بعدما تعود للحياة بفضل مضادات الأكسدة التي تحافظ على الخلية ومكوناتها من التضرر .
القدرة على البقاء بدون ماء لفترة طويلة , ليست هي القدرة الخارقة الوحيدة لدببة الماء .
دببة الماء في مواجهة درجات الحرارة المختلفة
قام العلماء بغمر الـ tardigrades في الهواء السائل عند درجة حرارة -200 درجة مئوية لمدة 21 شهراً , وفي النيتروجين السائل عند درجة حرارة -253 درجة مئوية لمدة 26 ساعة , وفي الهيليوم السائل عند -272 درجة مئوية لمدة 8 ساعات , ومع ذلك تمكنت جميعها من العودة إلى طبيعتها الحيوية بمجرد اتصالها بالماء .
وعلى الرغم من ذلك وجد العلماء أن أكبر خطر قد يواجه الـ tardigrades هو تعرضها للجليد الذي يمكن أن يُشكل بلورات ثلجية داخل خلاياها مما يمكن أن يمزق مكونات مهمة مثل الحمض النووي في الخلية .
وجدير بالذكر أن بعض الحيوانات بما في ذلك بعض الأسماك , تصنع بروتينات مضادة للتجمد تعمل على خفض نقطة التجمد في خلاياها , مما يضمن عدم تشكل الثلج , ولكن هذه البروتينات لم يتم العثور عليها في tardigrades .
ولكن يمكننا أن نرى أن الـ tardigrades يمكنها أن تتحمل بالفعل تكون الجليد داخل خلاياها , فهي إما أنها تحمي نفسها من الأضرار التي تسببها بلورات الثلج أو أنها يمكنها إصلاح تلك الأضرار .
ويعتقد العلماء أن الـ Tardigrades تُنتج مواد كيميائية تعمل على إجبار بلورات الجليد على التشكل خارج الخلايا بدلاً من داخلها , وبالتالي حماية الجزيئات الحيوية , كما يمكن لسكر الطريهالوز الموجود في بعض الأنواع ان يقوم بذلك العمل فيمنع تكوين بلورات الثلج الكبيرة التي من شأنها أن تخترق أغشية الخلايا .
وفي حين أن العلماء لديهم فكرة عن كيفية تعامل الـ tardigrades مع درجات الحرارة المنخفضة , إلا أنهم ليس لديهم فكرة عن كيفية تعاملها مع درجات الحرارة المرتفعة مثل 150 درجة مئوية مثلاً , والتي من المفترض أن تنحل عندها البروتينات وأغشية الخلايا في معظم الكائنات الحية , وتتوقف كذلك التفاعلات الكيميائية التي تحافظ عى الحياة , ولكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى دببة الماء الخارقة .
إن أكثر الكائنات الحية المعروفة مقاومة للحرارة هي البكتيريا التي تعيش حول حواف الفتحات الحرارية المائية في أعماق البحار , حيث بإمكانها العيش في درجة حرارة تصل إلى 122 درجة مئوية .
العديد من تلك الكائنات التي تكيفت للعيش في الأماكن الساخنة مثل الينابيع الحارة والصحاري الحارقة , تقوم بإنتاج مواد كيميائية تُسمى بروتينات الصدمة الحرارية , والتي تقوم بحماية البروتينات الموجودة داخل الخلايا , والمحافظة على شكلها , وكذلك إصلاحها في حالة تلفها بواسطة الحرارة .
ولكن على الرغم من ذلك لا يوجد دليل قاطع على أن الـ tardigrades تُنتج مثل تلك المواد الكيميائية .
دببة الماء في مواجهة الإشعاعات الضارة والضغط العالي
في عام 1964 , قام العلماء بتعريض الـ tardigrades إلى جرعات قاتلة من الأشعة السينية , ووجدوا انها تمكنت من البقاء على قيد الحياة , كما أظهرت التجارب اللاحقة أنه يمكن لدببة الماء التعامل مع كميات زائدة من أشعة ألفا وجاما و الأشعة فوق البنفسيجية - حتى إن لم تكن في حالة الإنضغاط .
كما وجد العلماء أن دببة الماء يمكنها أن تتعامل مع تعرضها للضغط الشديد الذي قد يسحق معظم الحيوانات المسطحة , فوفقاً لدراسة عام 1998 قام بنشرها كونيهيرو سيكي وماساتو تويوشيما من جامعة كاناغاوا في هيراتسوكا باليابان , وجدوا أن الـ tardigrades في حالة tun أو حالة الانضغاط يمكنها أن تنجو تحت ضغط يصل إلى 600 ميجا باسكال , وهذا أبعد من أي ضغط قد يواجهه كائن في الطبيعة , لذا فلا عجب في تمكن دببة الماء من البقاء على قيد الحياة في أعمق جزء من البحار في خندق مارينا في المحيط الهاديء , والذي ينخفض إلى 10994 م , بينما يصل ضغط الماء هناك إلى 100 ميجاباسكال .
بالنسبة لمعظم خلايا الكائنات الحية , فإن التعرض لمثل هذه الضغوط الكبيرة , من شأنها أن تؤدي إلى تكسير البروتينات والحمض النووي في الخلية , وتصبح أغشية الخلايا التي تتكون من الدهون كقوام الزبدة الموضوعة في الثلاجة , كما تتوقف معظم الكائنات الحية الدقيقة عن التمثيل الغذائي عند 30 ميجاباسكال فقط , بينما لا تستطيع البكتيريا البقاء على قيد الحياة عند 300 ميجاباسكال .
إذا ً كيف تتحمل دببة الماء كل هذا الضغط ولا تتأثر طبيعتها الحيوية ؟
يعتقد العلماء أن دببة الماء تقوم بصنع مضادات الأكسدة التي تعمل على إصلاح الحمض النووي التالف , أو أنها تستخدم الحيلة الأخرى وهي الدخول في حالة الانضغاط , كي تحافظ على خلاياها وحمضها النووي .
على الرغم من نمط حياتها الممل , إلا أن دببة الماء هي المخلوقات التي استطاعت بشكل مميز أن تتوائم مع ظروف البيئات المتطرفة , التي ربما لا تتواجد حتى على الأرض , ولم يسبقها في ذلك كائنات بدائية تعيش في عدة ظروف قاسية مثل البكتيريا .
مصدر المقال /bbc.com
حقوق الترجمة محفوظة لمدونة / عالم المعرفة
سبحان الله وبحمده
ردحذف